مرام عبدالرحمن مكاوي * - « صحيفة الوطن السعودية » - 21 / 12 / 2005م
أن تؤمن بقضية ما وتسعى لتعريف الناس بها ليس أمراً سيئا بشكل عام. بل إن استخدام الوسائل السلمية مثل الكتابة للتعبير عن الآراء أمر محمود وينبغي تشجيعه في أمتنا. لكن حين يتحول هذا القلم إلى أفعى تقطر سما وتسيء إلى سمعة الآخرين، مستخدمة أدنى وأحقر الوسائل مثل الكذب والإشاعات والتدليس، لتبرر ضرورة اتخاذ إجراء ما، فهنا تحتاج هذه الأقلام إلى وقفة صارمة. فللأسف الشديد في زمن الانحطاط العربي والإسلامي استخدم البعض الكذب، واخترعوا القصص، كأداة من أدوات الدعوة إلى الله!
وموضوع اليوم يتناول أحد الأمثلة على ذلك، فهناك مجموعة من الناس استيقظت بعد سبعين سنة من ظهور أول مستوصف أو مستشفى سعودي، ليكتشفوا بأن ما يحصل فيهما من اختلاط أمر محرم يجب إيقافه. ولا بد من إقامة مستشفيات نسائية خاصة مثل المدارس والجامعات النسائية. والقضية ليست في كون هذه الفكرة خيالية لا يمكن تطبيقها، بل المشكلة هي كيف تتم الدعوة لها، لمعرفة أصحابها ابتداء بأنها غير منطقية، وأنه يستحيل على الدولة الاستجابة لمطالبهم لعدة أسباب.
فأولاً: الطب كان ولا يزال في الشرق والغرب من المجالات التي يكون فيها العنصر الرجالي هو الغالب لأسباب تاريخية واجتماعية ونفسية واقتصادية. وخاصة في التخصصات الدقيقة مثل الجراحة بتخصصاتها. وبالتالي فيستحيل أن يوجد مستشفى لديه اكتفاء ذاتي في كل التخصصات من الطبيبات المؤهلات، وفنيات المختبرات، والأشعة، والتمريض، وبقية الكادر الطبي. وإن وجد فلن يكون في السعودية ولا في العالم العربي، لأنها بيئة لا تشجع المرأة على دخول هذه التخصصات، بل تشجعها على الزواج والجلوس في البيت.
ثانيا: لو أردنا أن نؤهل فعلا الفتيات السعوديات لهذه الوظيفة في خطة على مدى عشر سنوات مثلا، فهذا يعني أنه على هؤلاء الفتيات غالبا أن يسافرن للخارج للتخصص الدقيق، وأنهن سيقضين فترة طويلة من حياتهن وهن يتعلمن. وهذان الأمران يتعارضان مع أدبيات أنصار المستشفيات النسائية الذين يؤمنون بأن المرأة مكانها المنزل، وأن عملها يُضيّع أسرتها ويزعج زوجها، كما أن الأخطر من ذلك سفرها للخارج واختلاطها بالرجال. وهنا تفتق ذهن أحد هؤلاء الأنصار رافعا شعار «الضرورة تقدر بقدرها» ودعا إلى جلب الطبيبات من باكستان ومصر وسوريا، وبعملية الاستيراد هذه نكون قد حللنا المشكلة!
ثالثا: المرض ليس قضية هينة مثل الذهاب إلى السوق، حيث يمكن للرجل أن يوصل زوجته أو أمه أو إحدى محارمه، ويتركهن بضع ساعات ويعود «هذا والأسواق النسائية نفسها لم تحقق أي نجاح يذكر حتى الآن!»، بل إن الرجل العادي هو أول من سيعارضها. فمن سيترك زوجته الحامل في بكرها تراجع وحدها؟ ومن هذا الذي سيهون عليه أن تتخبط أمه العجوز في ردهات المستشفيات؟ ومن هذا الذي بلا إنسانية سيترك صغيرته التي شجت رأسها على باب المستشفى وهي تشخب دماً؟ بل الأسوأ هو كيف سيرى الرجال زوجاتهن وأمهاتهن وبناتهن، إذا تطلب الأمر مبيتا في المستشفى؟ لقد مكثت جدتي رحمها الله في المستشفى ستة أشهر، فهل كان يفترض في المستشفى الفاضل أن تحرم من رؤية ابنها وأحفادها في هذه اللحظات الأخيرة من حياتها؟ والأمر نفسه ينطبق على المستشفيات الرجالية، فهل هذا معناه بأنه لا يمكن لأم أن تزور ابنها الذي أصيب في حادث سيارة؟ أي فضيلة هذه التي تقوم على قطع أواصر العلاقات الإنسانية التي حث عليها ديننا الحنيف؟!
لهذا كله كان على أنصار الفكرة أن يجدوا طريقة لتسويقها، والطريقة الرخيصة التي استخدمت لتهييج الرأي العام، للدفع باتجاه هذه القضية هي حملة تشويه متعمدة لسمعة المستشفيات والأطباء والكليات الطبية، وتصويرها على أنها أقرب ما تكون إلى دور البغاء! فيتم سرد عشرات القصص الضعيفة لغةً وأسلوبا وإخراجا. فهذا يروي عن طالب طب قرر أن يترك الكلية خوفا على نفسه من الحرام، وآخر يصور ما يحدث للعفيفات في المستشفيات بأنه مشابه لما حصل في حادثة النهضة« فهل شاهد أحدنا صورا التقطها طالب طب ونشرها بالبلوتوث؟»، وثالث يكتب قصة مثيرة للغرائز عن طريقة الكشف على مريضة بسرطان الثدي، تثبت بأن عقل صاحبها في مكان آخر.
أما أكثرهم وقاحة فقام بالاستشهاد بوضع صورة غير واضحة لرجل بلباس طبي مع مريضة في غرفة العمليات، وقيل إنه يقوم بتقبيلها. وطبعا تتعالى الصيحات عن مدى الانحطاط الذي وصل له الجراح السعودي بتقبيله لمريضته المخدرة. وحين كشف أحد الإخوة بأن الصورة مأخوذة من موقع من "كوريا"، أجاب الرجل دون حياء، بأنه يعرف ذلك ولكنه يتوقع حصول أمر مشابه في مستشفياتنا! وأنا لا أعرف ابتداء من الذي قال لهم إن هذه صورة حقيقية سواء في كوريا أو تمبكتو؟ لعلها جزء من فيلم اسمه «الحب في غرفة التخدير!»، فهل هم عندما أخذوا الصورة من الموقع الكوري، قرؤوا محتوياته؟
في البداية ظننت الأمر واحداً من ملايين الموضوعات السخيفة التي اعتاد بعض أبناء بلادي كتابتها، ثم تحول الأمر إلى ظاهرة. كما أن البعض بدأ يستشهد ببعض المشايخ وأهل العلم وينشر مقولات لهم دعما لآرائه ما يجعل بعض العامة يصدقونهم. كما أن في ذلك تشويهاً لسمعة الدولة والجامعات، وقد يؤدي هذا الأمر إلى إحجام الطلاب المتميزين والطالبات المتميزات عن الالتحاق بكليات الطب، لتصديقهم هذه الإشاعات. بل وقد يمنع أحدهم ابنته من تحقيق حلمها الكبير بسبب ذلك.
وأنا حين أدافع عن هذه الفئة من مجتمعنا لا أنطلق من فراغ، فأنا أعتقد بأني على اطلاع لا بأس به على المجتمع الطبي. فابتداء أنا ابنة طبيبٍ، وأستاذ للجراحة العامة بكلية الطب. وأعرف أن الكشف على مريضة لا يتم دون وجود الممرضة على الأقل في الغرفة، وأن أحداً لا يجبر فتاة على أن تخضع لمعاينة الطلبة، مع أنه مستشفى تعليمي بالأساس.
وأعرف أيضا أن والدي الذي أمضى أربعة عشر عاما من عمره بعيدا عن أهله ووطنه لطلب العلم، لم يفعل ذلك فقط حتى يطَلع على عورات الناس، أو ليتسلى بمشاهدة المريضات على سرير العمليات. إنها وظيفة مرهقة أخذت من صحته وعمره وحياته الاجتماعية الكثير. لا أذكر عدد المرات التي اضطررنا فيه أن نقطع نزهتنا القصيرة، بسبب تلقيه مكالمة من المستشفى تخبره بوجود مريض في حالة خطرة وعليه فلا بد أن نعود للبيت، وينطلق هو للمستشفى. ولا عدد المرات التي قضينا فيها عطلة نهاية الأسبوع في المنزل، لأن والدنا «مناوب» وينتظر مكالمة في أية لحظة، حتى لو كانت هذه اللحظة الساعة الثالثة فجراً.
وهكذا فحياة الطبيب ليست مريحة كما يتخيل البعض، فإذا أضفنا إليها حمل التدريس وامتحانات الطلبة وبقية مهام الأستاذ الجامعي، فإنه من المعيب حقاً أن يجلس أناس خلف شاشاتهم ويبدأون في التهريف بما لا يعرفون، مستغلين أن الطرف الآخر ليس لديهم وقت ليردوا على هذه التفاهات، مع أن الله سخر بعض الأطباء الشباب الذين حاولوا تصحيح الصورة لكنهم كانوا قلة في وجه عاصفة حاقدة.
ترى هل يقبل أحد أن يتم استخدام الأسلوب ذاته من قبل دعاة الفساد «كما يسمي البعض خصومه»، لتحقيق مآربهم الخاصة؟ لنفرض أن التيار التغريبي يريد أن يجعل التعليم الابتدائي مختلطاً، ومن أجل أن يجد قبولا لهذا الأمر قام بترويج قصص عن اعتداء المعلمين جنسيا على الصغار، وبالتالي فحماية لهم نضعهم مع البنات ونجعل المعلمة امرأة، فهل يكون هذا مقبولا؟ وهل يتم تشويه سمعة الملايين من معلمي الصفوف الابتدائية من أجل الدفع بأجندة خاصة؟
لا أحد ينكر بأن هناك أموراً لا نرضاها في بعض المستشفيات وفي بعض الأمكنة الأخرى، وبأن التجاوزات قد تقع هنا أو هناك، لكن بالتأكيد ليست حالة عامة، تستدعي كل هذه الضجة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، يمكن لأنصار فصل المستشفيات، أن يتقدموا بطلب للدولة مدعوما بالأسباب وطرق الحل بالتفصيل والتكلفة، ومن حق الدولة أن تنظر فيه وترد عليهم بالإيجاب أو الرفض، لكن دون أن يستخدموا وقائع كاذبة، ودون أن يكون الثمن تشويه سمعة الآخرين بلا بينة. فالكذب رذيلة..ولا يمكن للرذيلة أن تحرس الفضيلة.
كاتبة سعودية وطالبة دراسات عليا، المملكة المتحدة
No comments:
Post a Comment